الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
كُتب الفقــه الجزء الثامـن والعشرون /بسم الله الرحمن الرحيم فأجاب: الحمد لله، بل المقام في ثغور المسلمين كالثغور الشامية والمصرية أفضل من المجاورة في المساجد الثلاثة، وما أعلم في هذا نزاعًا بين أهل العلم، وقد نص على ذلك غير واحد من الأئمة؛ وذلك لأن الرباط من جنس الجهاد، والمجاورة غايتها أن تكون من جنس الحج، كما قال تعإلى: وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل: أي /الأعمال أفضل؟ قال: (إيمان بالله ورسوله). قيل: ثم ماذا؟ قال: (ثم جهاد في سبيله). قيل: ثم ماذا؟ قال: (ثم حج مبرور). وقد روي: (غزوة في سبيل الله أفضل من سبعين حجة)، وقد روي مسلم في صحيحه عن سلمان الفارسي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رباط يوم وليلة في سبيل الله، خير من صيام شهر وقيامه، ومن مات مرابطًا، مات مجاهدًا، وأجري عليه رزقه من الجنة، وأمن الفتان). وفي السنن عن عثمان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رباط يوم في سبيل الله، خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل)؛ وهذا قاله عثمان على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر أنه قال لهم ذلك تبليغًا للسنة. وقال أبو هريرة: لأن أرابط ليلة في سبيل الله، أحب إلى من أن أقوم ليلة القدر عند الحجر الأسود. وفضائل الرباط والحرس في سبيل الله كثيرة لا تسعها هذه الورقة. والله أعلم. / وإذا عَلَّم رجل رجلاً الرمي أو الطعن وغيرهما من آلات الحرب والجهاد في سبيل الله ـ تعإلى ـ وجحد تعليمه، وانتقل إلى غيره وانتمي إليه: هل يأثم بذلك أم لا؟ وإذا قال قائل لهذا المنتقل: أنت مهدور، أو تقتل: أثم بذلك أم لا؟ وإن زاد فقال له: أنت لقيط، أو ولد زنا: يعد قذفًا، ويحد بذلك أم لا؟ وهل يحل للأستاذ الثاني أن يقبل هذا المنتقل ويعزره على جحده لمعلمه؟ وإذا قال المنتقل: أنا أنتمي إلى فلان تعلىمًا وتخريجًا، وإلى فلان إفادة وتفهيمًا: هل يسوغ له ذلك أم لا؟ وهل للمبتدئ أن / يقوم في وسط جماعة من الأستاذين والمتعلمين ويقول: ياجماعة الخير، أسأل الله ـ تعإلى ـ وأسألكم أن تسألوا فلانًا أن يقبلني أن أكون له أخًا أو رفيقًا، أو غلامًا، أو تلميذًا، أو ما أشبه ذلك، فيقوم أحد الجماعة فيأخذ عليه العهد، ويشترط عليه ما يريده، ويشد وسطه بمنديل أو غيره: فهل يسوغ هذا الفعل أم لا لما يترتب عليه من المحاماة والعصبية لأستاذ، بحيث يصير لكل من الأستاذين إخوان ورفقاء وأحزاب وتلاميذ يقومون معه إذا قام بحق أو باطل، ويعادون من عاداه ويوالون من والاه؟ وهل إذا اجتمعوا للرمي على رهن: هل يحل أم لا؟ وهل يقدح في عدالة الأستاذ إذا فعل التلامذة ما لا يحل في الدين ويقرهم على ذلك؟ وهل إذا شد المعلم للتلميذ، وحصل بذلك هبة وكرامة ـ وجميع ذلك في العرف يرجع إلى الأستاذ ـ يحل له تناوله أم لا؟ وهل للأستاذ أن يقبل أجرة أو هبة أو هدية؟ فإن المعلم تلحقه كلفة من آلات وغيرها. أفتونا مأجورين وأرشدونا ـ رضي الله عنكم أجمعين. فأجاب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية ـ رضي الله عنه : الحمد لله رب العالمين، الرمى في سبيل الله،والطعن في سبيل/الله، والضرب في سبيل الله كل ذلك مما أمر الله ـ تعإلى ـ به ورسوله، وقد ذكر الله ـ تعإلى ـ الثلاثة، فقال تعإلى: وثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال: (ارموا واركبوا، وإن ترموا أحب إلى من أن تركبوا)، و(من تعلم الرمى ثم نسيه، فليس منا)، وفي رواية: (ومن تعلم الرمى ثم نسيه فهي نعمة جحدها). وفي السنن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كل لهو يلهو به الرجل فهو باطل، إلا رمىه بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبته امرأته، فإنهن من الحق). وقال: (ستفتح علىكم أرضون ويكفيكم الله، فلا يعجز أحدكم أن يلهو بأسهمه). وقال مكحول:كتب عمر بن الخطاب إلى الشام:أن علموا / أولادكم الرمى والفروسية. وفي صحيح البخاري عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ارموا بني إسماعيل؛ فإن أباكم كان راميا). ومر على نفر من أسلم ينتضلون فقال صلى الله عليه وسلم: (ارموا بني إسماعيل؛ فإن أباكم كان راميا، ارموا وأنا مع بني فلان). فأمسك أحد الفريقين بأيديهم فقال: (ما لكم لا ترمون؟) قالوا: كيف نرمي وأنت معهم؟ فقال: (ارموا وأنا معكم كلكم). وقال سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ: مثل لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ يعني نفض كنانته يوم أحد ـ وقال: (ارم فداك أبي وأمي). وقال على بن أبي طالب: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع أبويه لأحد إلا لسعد: قال له: (ارم سعد، فداك أبي وأمي). وقال أنس بن مالك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لصوت أبي طلحة في الجيش خير من مائة). وكان إذا كان في الجيش جثا بين يديه، ونثر كنانته، فقال: نفسي لنفسك الفداء، ووجهي لوجهك الوقاء. وكان النبي صلى الله عليه وسلم له السيف والقوس والرمح. وفي السنن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: / ( من رمى بسهم في سبيل الله ـ بلغ العدو أو لم يبلغه ـ كانت له عدل رقبة). وفي السنن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة: صانعه يحتسب في صنعـته الخير، والرامي بـه، والممد بـه). وهـذا لأن هـذه الأعمال هي أعمال الجهاد، والجهاد أفضـل ما تطوع به الإنسان، وتطوعه أفضل من تطوع الحج وغيره، كما قال تعإلى: وفي الصحيح: أن رجلاً قال: لا أبإلى ألا أعمل عملاً بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام، فقال على بن أبي طالب: الجهاد في سبيل الله أفضل من هذا كله. فقال عمر بن الخطاب: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولكن إذا قضيت الصلاة. سألته عن ذلك، فسأله، فأنزل الله هذه الآية، فبين لهم أن الإيمان والجهاد أفضل من عمارة المسجد الحرام والحج والعمرة والطواف ومن /الإحسان إلى الحجاج بالسقاية؛ ولهذا قال أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ: لأن أرابط ليلة في سبيل الله، أحب إلى من أن أقوم ليلة القدر عند الحجر الأسود. ولهذا كان الرباط في الثغور أفضل من المجاورة بمكة والمدينة، والعمل بالرمح والقوس في الثغور، أفضل من صلاة التطوع. وأما في الأمصار البعيدة من العدو، فهو نظير صلاة التطوع. وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن في الجنة مائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين السماء والأرض، أعدها الله للمجاهدين في سبيله). وهذه الأعمال كل منها له محل يليق به هو أفضل فيه من غيره، فالسيف عند مواصلة العدو، والطعن عند مقاربته، والرمى عند بعده أو عند الحائل كالنهر والحصن ونحو ذلك. فكلما كان أنكي في العدو وأنفع للمسلمين، فهو أفضل. وهذا يختلف باختلاف أحوال العدو، وباختلاف حال المجاهدين في العدو. ومنه ما يكون الرمى فيه أنفع، ومنه ما يكون الطعن فيه أنفع. وهذا مما يعلمه المقاتلون.
وتعلم هذه الصناعات هو من الأعمال الصالحة لمن يبتغي بذلك وجه الله ـ عز وجل ـ فمن علم غيره ذلك، كان شريكه في كل جهاد يجاهد به، لا ينقص أحدهما من الأجر شيئًا، كالذي يقرأ القرآن ويعلم العلم. وعلى المتعلم أن يحسن نيته في ذلك ويقصد به وجه الله ـ تعإلى ـ وعلى المعلم أن ينصح للمتعلم ويجتهد في تعلىمه، وعلى المتعلم أن يعرف حرمة أستاذه ويشكر إحسانه إليه، فإنه من لا يشكر الناس لا يشكر الله، ولا يجحد حقه ولا ينكر معروفه. وعلى المعلمين أن يكونوا متعاونين على البر والتقوي كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (المسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يظلمه). وقوله: (مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكي منه عضو، تداعي له سائر الجسد بالحمي والسهر)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه من الخير ما يحبه لنفسه). وقوله: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا) وشبك بين أصابعه، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تحاسدوا /ولا تقاطعوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا). وهذا كله في الصحيح. وفي السنن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ألا أنبئكم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر؟). قالوا: بلي يارسول الله، قال: (صلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول: تحلق الشعر ولكن تحلق الدين). وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تفتح أبواب الجنة كل يوما اثنين وخميس، فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئًا، إلا رجلاً كان بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا). وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيصد هذا ويصد هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام). وليس لأحد من المعلمين أن يعتدي على الآخر، ولا يؤذيه بقول ولا فعل بغير حق؛ فإن الله ـ تعإلى ـ يقول: وإذا جني شخص فلا يجوز أن يعاقب بغير العقوبة الشرعية، وليس لأحد من المتعلمين والأستاذين أن يعاقبه بما يشاء. وليس لأحد أن يعاونه ولا يوافقه على ذلك، مثل أن يأمر بهجر شخص فيهجره بغير ذنب شرعي، أو يقول: أقعدته أو أهدرته أو نحو ذلك، فإن هذا من جنس ما يفعله القساقسة والرهبان مع النصاري والحزابون مع إليهود، ومن جنس ما يفعله أئمة الضلالة والغواية مع أتباعهم. وقد قال الصديق الذي هو خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته: أطيعوني ما أطعت الله، فإن عصيت الله، فلا طاعة لي علىكم. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق). وقال: (من أمركم بمعصية الله، فلا تطيعوه). فإذا كان المعلم أو الأستاذ قد أمر بهجر شخص، أو بإهداره وإسقاطه وإبعاده ونحو ذلك، نظر فيه، فإن كان قد فعل ذنبًا شرعيا، عوقب بقدر ذنبه بلا زيادة. وإن لم يكن أذنب ذنبًا شرعيا، لم يجز أن يعاقب بشيء لأجل غرض المعلم أو غيره. وليس للمعلمين أن يحزبوا الناس ويفعلوا ما يلقي بينهم العداوة /والبغضاء، بل يكونون مثل الأخوة المتعاونين على البر والتقوي كما قال تعإلى: وليس لأحد منهم أن يأخذ على أحد عهدًا بموافقته على كل ما يريده، وموالاة من يوإليه، ومعاداة من يعاديه. بل من فعل هذا، كان من جنس جنكزخان وأمثاله الذين يجعلون من وافقهم صديقًا وإلى، ومن خالفهم عدوًا باغي. بل عليهم وعلى أتباعهم عهد الله ورسوله بأن يطيعوا الله ورسوله؛ ويفعلوا ما أمر الله به ورسوله؛ ويحرموا ما حرم الله ورسوله، ويرعوا حقوق المعلمين كما أمر الله ورسوله. فإن كان أستاذ أحد مظلومًا نصره، وإن كان ظالمـًا لم يعاونه على الظلم بل يمنعه منه؛ كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (انصر أخاك ظالمـًا أو مظلومًا). قيل: يارسول الله، أنصره مظلومًا فكيف أنصره ظالمًا؟ قال: (تمنعه من الظلم فذلك نصرك إياه). وإذا وقـع بين معلم ومعلم أو تلميذ وتلميذ أو معلم وتلميذ خصومة ومشاجـرة، لم يجـز لأحـد أن يعيـن أحـدهما حتى يعلم الحـق، فلا يعاونه بجهل ولا بهوي، بل ينظر في الأمـر فـإذا تبين له الحق، أعان المحق منهما على المبطل، سواء كان المحق من أصحابه أو أصحاب غيره. وسواء كان المبطل من أصحابه أو أصحاب غيره، فيكون المقصود عبادة الله وحده وطاعة رسوله، واتباع الحق والقيام بالقسط. قال الله تعإلى: ومن مال مع صاحبه ـ سواء كان الحق له أو عليه ـ فقد حكم بحكم الجاهلية وخرج عن حكم الله ورسوله، والواجب على جميعهم أن يكونوا يدًا واحدة مع الحقي على المبطل، فيكون المعظم عندهم من عظمه الله ورسوله، والمقدم عندهم من قدمه الله ورسوله، والمحبوب عندهم من أحبه الله ورسوله، والمهان عندهم من أهانه الله ورسوله بحسب ما يرضي الله ورسوله لا بحسب الأهواء؛ فإنه من يطع الله ورسوله، فقد رشد. ومن يعص الله ورسوله، فإنه لا يضر إلا نفسه. فهذا هو الأصل الذي عليهم اعتماده. وحينئذ، فلا حاجة إلى تفرقهم وتشيعهم، فإن الله ـ تعإلى ـ يقول: ولا يشد وسطه لا لمعلمه ولا لغير معلمه، فإن شد الوسط لشخص / معين وانتسابه إليه ـ كما ذكر في السؤال ـ: من بدع الجاهلية، ومن جنس التحالف الذي كان المشركون يفعلونه، ومن جنس تفرق قيس ويمن. فإن كان المقصود بهذا الشد والانتماء التعاون على البر والتقوي، فهذا قد أمر الله به ورسوله له ولغيره بدون هذا الشد، وإن كان المقصود به التعاون على الإثم والعدوان، فهذا قد حرمه الله ورسوله فما قصد بهذا من خير، ففي أمر الله ورسوله بكل معروف استغناء أمر المعلمين، وما قصد بهذا من شر، فقد حرمه الله ورسوله. فليس لمعلم أن يحالف تلامذته على هذا، ولا لغير المعلم أن يأخذ أحدًا من تلامذته لينسبوا إليه على الوجه البدعي: لا ابتداء، ولا إفادة. وليس له أن يجحد حق الأول عليه، وليس للأول أن يمنع أحدًا من إفادته التعلم من غيره، وليس للثاني أن يقول: شد لي وانتسب لي دون معلمك الأول، بل إن تعلم من اثنين فإنه يراعي حق كل منهما، ولا يتعصب لا للأول ولا للثاني، وإذا كان تعلىم الأول له أكثر، كانت رعايته لحقه أكثر. وإذا اجتمعوا على طاعة الله ورسوله، وتعاونوا على البر والتقوي، لم يكن أحد مع أحد في كل شيء، بل يكون كل شخص مع كل شخص في طاعة الله ورسوله، ولا يكونون مع أحد في معصية الله ورسوله، بل يتعاونون على الصدق والعدل والإحسان، والأمر بالمعروف والنهى عن / المنكر، ونصر المظلوم وكل ما يحبه الله ورسوله، ولا يتعاونون لا على ظلم ولا عصبية جاهلية. ولا اتباع الهوي بدون هدي من الله، ولا تفرق ولا اختلاف، ولا شد وسط لشخص ليتابعه في كل شيء، ولا يحالفه على غير ما أمر الله به ورسوله. وحينئذ، فلا ينتقل أحد عن أحد إلى أحد، ولا ينتمي أحد: لا لقيطًا، ولا ثقيلاً ولا غير ذلك من أسماء الجاهلية، فإن هذه الأمور إنما ولدها كون الأستاذ يريد أن يوافقه تلميذه على ما يريد، فيوإلى من يوإليه، ويعادي من يعاديه مطلقًا. وهذا حرام، ليس لأحد أن يأمر به أحدًا، ولا يجيب عليه أحدًا، بل تجمعهم السنة وتفرقهم البدعة. يجمعهم فعل ما أمر الله به، ورسوله وتفرق بينهم معصية الله ورسوله، حتى يصير الناس أهل طاعة الله أو أهل معصية الله، فلا تكون العبادة إلا لله ـ عز وجل ـ ولا الطاعة المطلقة إلا له ـ سبحانه ـ ولرسوله صلى الله عليه وسلم. ولا ريب أنهم إذا كانوا على عادتهم الجاهلية ـ أي: من علمه أستاذ كان محالفًا له ـ كان المنتقل عن الأول إلى الثاني ظالمًا باغيا ناقضًا لعهده غير موثوق بعقده، وهذا ـ أيضًا ـ حرام وإثم، هذا أعظم من إثم من لم يفعل مثل فعله؛ بل مثل هذا إذا انتقل إلى غير أستاذه وحالفه، كان قد فعل حرامًا، فيكون مثل لحم الخنزير الميت. فإنه لا /بعهد الله ورسوله أوفي، ولا بعهد الأول. بل كان بمنزلة المتلاعب الذي لا عهد له، ولا دين له ولا وفاء. وقد كانوا في الجاهلية يحالف الرجل قبيلة فإذا وجد أقوي منها، نقض عهد الأولي وحالف الثانية ـ وهو شبيه بحال هؤلاء ـ فأنزل الله تعإلى: وعليهم أن يأتمروا بالمعروف ويتناهوا عن المنكر، ولا يدعوا بينهم من يظهر ظلمًا أو فاحشة، ولا يدعوا صبيا أمرد يتبرج أو يظهر ما يفتن به الناس، ولا أن يعاشر من يتهم بعشرته، ولا يكرم لغرض فاسد. ومن حالف شخصًا على أن يوإلى من والاه ويعادي من عاداه، كان من جنس التتر المجاهدين في سبيل الشيطان، ومثل هذا ليس من المجاهدين في سبيل الله ـ تعإلى ـ ولا من جند المسلمين، ولا يجوز أن / يكون مثل هؤلاء من عسكر المسلمين، بل هؤلاء من عسكر الشيطان، ولكن يحسن أن يقول لتلميذه: علىك عهد الله وميثاقه أن توإلى من وإلى الله ورسوله، وتعادي من عادي الله ورسوله، وتعاون على البر والتقوي ولا تعاون على الإثم والعدوان. وإذا كان الحق معي، نصرت الحق، وإن كنت على الباطل، لم تنصر الباطل. فمن التزم هذا، كان من المجاهدين في سبيل الله ـ تعإلى ـ الذين يريدون أن يكون الدين كله لله، وتكون كلمة الله هي العليا. وفي الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: يارسول الله، الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء، فأي ذلك في سبيل الله؟ فقال: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله). فإذا كان المجاهد الذي يقاتل حمية للمسلمين؛ أو يقاتل رياء للناس ليمدحوه، أو يقاتل لما فيه من الشجاعة: لا يكون قتاله في سبيل الله ـ عز وجل ـ حتى يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فكيف من يكون أفضل تعلمه صناعة القتال مبنيا على أساس فاسد ليعاون شخصًا مخلوقًا على شخص مخلوق؟! فمن فعل ذلك، كان من أهل الجاهلية الجهلاء، والتتر الخارجين عن شريعة الإسلام، ومثل هؤلاء يستحقون العقوبة البليغة الشرعية التي تزجرهم وأمثالهم عن مثل هذا التفرق والاختلاف، حتى يكون الدين كله لله والطاعة لله ورسوله، /ويكونون قائمين بالقسط يوالون لله ورسوله، ويحبون لله ويبغضون لله، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. وللمعلمين أن يطلبوا جعلاً ممن يعلمونه هذه الصناعة. فإن أخذ الجعل والعوض على تعلىم هذه الصناعة جائز، والاكتساب بذلك أحسن المكاسب، ولو أهدي المعلم لأستاذه لأجل تعلىمه وأعطاه ما حصل له من السبق أو غير السبق عوضًا عن تعلىمه وتحصيله الآلات واستكرائه الحانوت، كان ذلك جائزًا، للأستاذ قبوله، وبذل العوض في ذلك من أفضل الأعمال، حتى أن الشريعة مضت بأنه يجوز أن يبذل العوض للمسابقين من غيرهما. فإذا أخرج ولي الأمر مالاً من بيت المال للمسابقين بالنشاب والخيل والإبل، كان ذلك جائزًا باتفاق الأئمة. ولو تبرع رجل مسلم ببذل الجعل في ذلك، كان مأجورًا على ذلك، وكذلك ما يعطيه الرجل لمن يعلمه ذلك، هو ممن يثاب عليه. وهذا لأن هذه الأعمال منفعتها عامة للمسلمين، فيجوز بذل العوض من آحاد المسلمين فكان جائزًا، وإن أخرجا جميعًا العوض وكان معهما آخر محللاً يكافيها، كان ذلك جائزًا، وإن لم يكن بينهما محلل، فبذل أحدهما شيئًا طابت به نفسه من غير إلزام له أطعم به الجماعة، أو أعطاه للمعلم أو أعطاه لرفيقه، كان ذلك جائزًا. /وأصل هذا أن يعلم أن هذه الأعمال عون على الجهاد في سبيل الله، والجهاد في سبيل الله مقصوده أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا. وجماع الدين شيئان: أحدهما: ألا نعبد إلا الله تعإلى. والثاني: أن نعبده بما شرع، لا نعبده بالبدع، كما قال تعإلى: وكان عمر بن الخطاب يقول في دعائه: اللهم اجعل عملي كله صالحًا، واجعله لوجهك خالصًا، ولا تجعل لأحد فيه شيئًا. وهذا هو دين الإسلام الذي أرسل الله به رسله وأنزل به كتبه، وهو الاستسلام لله وحده. فمن لم يستسلم له، كان مستكبرًا عن عبادته، وقد قال تعإلى: وقال تعإلى: فالحلال ما حلله والحرام ما حرمه والدين ما شرعه، فليس لأحد من المشايخ والملوك والعلماء والأمراء والمعلمين وسائر الخلق خروج عن ذلك، بل على جميع الخلق أن يدينوا بدين الإسلام الذي بعث اللّه به رسلـه، ويدخلوا به كلهم في دين خاتم الرسل وسيد ولد آدم وإمام المتقين خير الخلق وأكرمهم على اللّه محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليمًا، وكل من أمر بأمر كائنا من كان عرض على /الكتاب والسنة، فإن وافق ذلك قبل، وإلا رد، كما جاء في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:(من عمل عملا ليس عليه أمرنا، فهو رد) أي:فهو مردود. فإذا كان المشايخ والعلماء في أحوالهم وأقوالهم: المعروف والمنكر، والهدي والضلال، والرشاد والغي، وعليهم أن يردوا ذلك إلى اللّه والرسول، فيقبلوا ما قبله اللّه ورسوله، ويردوا ما رده اللّه ورسوله، فكيف بالمعلمين وأمثالهم؟! وقد قال اللّه تعإلى:
من شرط الجندي أن يكون دينا شجاعا. ثم قال: الناس على أربعة أقسام: أعلاهم الدين الشجاع، ثم الدين بلا شجاعة، ثم عكسه، ثم العري عنهما. وَسُئِلَ عن رجل جندي وهو يريد ألا يخدم ؟ فأجاب: إذا كان للمسلمين به منفعة وهو قادر عليها، لم ينبغ له أن يترك ذلك لغير مصلحة راجحة على المسلمين، بل كونه مقدماً في الجهاد الذي يحبه اللّه ورسوله، أفضل من التطوع بالعبادة، كصلاة التطوع، والحج التطوع، والصيام التطوع. واللّه أعلم.
هل يجوز للجندي أن يلبس شيئاً من الحرير والذهب والفضة في القتال، أو وقت يصل رسل العدو إلى المسلمين ؟ فأجاب: الحمد للّه، أما لباس الحرير عند القتال للضرورة فيجوز باتفاق المسلمين، وذلك بألا يقوم غيره مقامه في دفع السلاح والوقاية. وأما لباسه لإرهاب العدو، ففيه للعلماء قولان: أظهرهما أن ذلك جائز. فإن جند الشام كتبوا إلى عمر بن الخطاب: إنا إذا لقينا العدو ورأيناهم قد كفروا ـ أي: غطوا أسلحتهم بالحرير ـ وجدنا لذلك رعباً في قلوبنا. فكتب إليهم عمر: وأنتم فَكَفِّروا أسلحتكم، كما يكفرون أسلحتهم. ولأن لبس الحرير فيه خيلاء واللّه يحب الخيلاء حال القتال، كما في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن من الخيلاء ما يحبه اللّه، ومن الخيلاء ما يبغضه اللّه، فأما الخيلاء التي يحبها اللّه فاختيال الرجل عند الحرب، وعند الصدقة. وأما الخيلاء التي يبغضها اللّه، فالخيلاء في البغي والفخر). ولما كان يوم أحد اختال أبو دُجَانة /الأنصاري بين الصفين فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنها لمشية يبغضها اللّه إلا في هذا الموطن). وأما يسير الحرير مثل العلم الذي عرضه أربعة أصابع ونحو ذلك فيجوز مطلقا، وفي العلم الذهب نزاع بين العلماء؛ والأظهر جوازه أيضا؛ فإن في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه نهى عن الذهب إلا مقطعا.
فأجاب: أما سفر صاحب العيال، فإن كان السفر يضر بعياله، لم يسافر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كفي بالمرء إثماً أن يُضِيعَ من يقوت)، وسواء كان تضررهم لقلة النفقة أو لضعفهم، وسفر مثل هذا حرام. وإن كانوا لا يتضررون، بل يتألمون وتنقص أحوالهم، فإن لم يكن في السفر فائدة جسيمة تربو على ثواب مقامه عندهم كعلم يخاف فوته، وشيخ يتعين الاجتماع به،وإلا فمقامه عندهم أفضل،وهذا لعمري إذا صحت نيته في السفر،كان مشروعا. وأما إن كان كسفر كثير من الناس، إنما يسافر قلقاً وتزجية للوقت، فهذا مقامه يعبد اللّه في بيته خير له بكل حال، ويحتاج صاحب هذه /الحال أن يستشير في خاصة نفسه رجلا عالماً بحاله، وبما يصلحه، مأموناً على ذلك، فإن أحوال الناس تختلف في مثل هذا اختلافا متبايناً. واللّه ـ سبحانه وتعإلى ـ أعلم.
فأجاب: الحمد للّه، هذا كله باطل لا أصل له، بل الرجل إذا استخار اللّه ـ تعإلى ـ وفعل شيئا مباحا، فليفعله في أي وقت تيسر. ولا يكره التفصيل ولا الخياطة ولا الغزل ولا نحو ذلك من الأفعال في يوم من الأيام، ولا يكره الجماع في ليلة من الليالي ولا يوم من الأيام. والنبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن التطير كما ثبت في الصحيح عن معاوية بن الحكم السلمي قال: قلت: يارسول اللّه، إن منا قوما يأتون الكهان، قال: (فلا تأتوهم). قلت: منا قوم يتطيرون؟ قال: (ذاك شيء يجده أحدكم من نفسه فلا يصدنكم). فإذا كان قد نهى عن أن تصده الطيرة عما عزم عليه، فكيف بالأيام والليالي؟/ ولكن يستحب السفر يوم الخميس، ويوم السبت ويوم الاثنين، من غير نهى عن سائر الأيام، إلا يوم الجمعة إذا كانت الجمعة تفوته بالسفر ففيه نزاع بين العلماء. وأما الصناعات والجماع، فلا يكره في شيء من الأيام. واللّه أعلم.
بسم الله الرحمن الرحيم /فإن اللذة والفرحة والسرور وطيب الوقت والنعيم الذي لا يمكن التعبير عنه، إنما هو في معرفة اللّه ـ سبحانه وتعإلى ـ وتوحيده والإيمان به وانفتاح الحقائق الإيمانية والمعارف القرآنية، كما قال بعض الشيوخ: لقد كنت في حال أقول فيها: إن كان أهل الجنة في هذه الحال، إنهم لفي عيش طيب. وقال آخر: لتمرعلى القلب أوقات يرقص فيها طرباً، وليس في الدنيا نعيم يشبه نعيم الآخرة إلا نعيم الإيمان والمعرفة. ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أرحنا بالصلاة يابلال)، ولا يقول: أرحنا منها، كما يقوله من تثقل عليه الصلاة، كما قال تعإلى: والقلوب فيها وسواس النفس، والشيطان يأمر بالشهوات والشبهات ما يفسد عليه طيب عيشها، فمن كان محباً لغير اللّه، فهو معذب في الدنيا /والآخرة، إن نال مراده عذب به؛ وإن لم ينله، فهو في العذاب والحسرة والحزن. وليس للقلوب سرور ولا لذة تامة إلا في محبة اللّه والتقرب إليه بما يحبه ولا تمكن محبته إلا بالإعراض عن كل محبوب سواه، وهذا حقيقة لا إله إلا اللّه، وهي ملة إبراهيم الخليل ـ عليه السلام ـ وسائر الأنبياء والمرسلين صلاة اللّه وسلامه عليهم أجمعين، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه: (قولوا: أصبحنا على فطرة الإسلام وكلمة الإخلاص ودين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وملة أبينا إبراهيم حنيفاً مسلماً، وما كان من المشركين). و [الحنيف] للسلف فيه ثلاث عبارات: قال محمد بن كعب: مستقيما. وقال عطاء: مخلصاً. وقال آخرون: متبعاً. فهو مستقيم القلب إلى اللّه دون ما سواه. قال اللّه تعإلى: ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر ـ رضي اللّه عنه ـ: (ما أتاك من هذا المال وأنت غير سائل ولا متشرف فخذه، وما لا، فلا تتبعه نفسك)ـ فالسائل بلسانه والمتشرف بقلبه ـ متفق على صحته. وعن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من يستعفف يعفه اللّه، ومن يستغن يغنه اللّه؛ ومن يصبر يصبره الله). متفق على صحته . فالغني في القلب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس الغني عن كثرة المال، ولكن الغني غني النفس). [والعفيف] الذي لا يسأل بلسانه لا نصراً ولا رزقا . قال تعإلى: والخير كله في متابعة النبي صلى الله عليه وسلم النبي الأمي الذي فالإنسان ظالم جاهل كما قال تعالى: ولهذا كان الدين مجموعا في التوحيد والاستغفار، قال تعالى: ولابد لكل عبد من التوبة والاستغفار بحسب حاله. والعبد إذا أنعم الله عليه بالتوحيد فشهد أن لا إله إلا الله مخلصا من قلبه ـ والإله هو المعبود، الذي يستحق غاية الحب والعبودية بالإجلال والإكرام، والخوف والرجاء، يفني القلب بحب الله ـ تعالى ـ عن حب ما سواه، ودعائه والتوكل عليه وسؤاله عما سواه، وبطاعته عن طاعة ما سواه ـ حلاه الله بالأمن والسرور، والحبور، والرحمة للخلق، والجهاد في سبيل الله فهو يجاهد ويرحم.له الصبر والرحمة، قال الله تعالى: والخوف الذي يحصل في قلوب الناس هو الشرك الذي في قلوبهم، قال الله تعالى: ولكن للشيطان وسواس في قلوب الناس،كما قال تعالى: وقال تعالى: والله تعالى يقول: وقال تعالى: فبين ـ سبحانه ـ حال من يجادل في الدين بلا علم. والعلم: هو ما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو: السلطان كما قال تعالى: فكل من دعا غير الله، فهو مشرك، والعيان يصدق هذا، فإن المخلوقين إذا اشتكي إليهم الإنسان فضررهم أقرب من نفعهم، والخالق ـ جل جلاله وتقدست أسماؤه ولا إله غيره ـ إذا اشتكي إليه المخلوق وأنزل حاجته به واستغفره من ذنوبه، أيده وقواه وهداه، وسد فاقته وأغناه وقربه وأقناه، وحبه واصطفاه. والمخلوق إذا أنزل العبد به حاجته استرذله وازدراه ثم أعرض عنه، خسـر الدنيا والآخرة. وإن قضي له ببعض مطلبـه؛ لأن عنـده من بعض رعاياه يسـتعبده بما يهـواه، قـال الخليـل ـ عليه أفضـل الصـلاة والســلام ـ: وهذا باب واسع قد كتبت فيه شيئا كثيرًا، وعرفته: علماً، وذوقًا، وتجربة.
|